تنبيه الذكي إلى ما
ندّ وخفي
سعيد بن عبدالخالق
قرأتُ ما كتبه أخونا الفاضل الدكتور أحمد البحبح
- وفقه الله وبارك فيه - في مقاله (التقرير في جمع تغيير ) ، وقد ظهر لي فيه بعض
الملحوظات التي أودّ أن أنبّهه عليها بدافع المحبة الإيمانيّة والأخوّة العلميّة ،
وأسأل الله أن يوفقني وإياه للسداد قولًا وعملًا.
١-
القياس أن يُجمع تفعيــلٌ على تفاعيل ، وله شواهد في كلام العرب كـ( تصاوير) و (تباشير) و(تباريح) ، وليس من شرط المقيس عليه الكثرة ، فقد يُقاس على القليل
لموافقته للقياس ، كقولهم : رَكَبِيّ و حَلَبِيّ في النسب إلى رَكُوبَة و حَلُوبَة
، قياسًا على شَنَئِيّ في النسب إلى شَنوءة ولم يأت منه إلا هذه الكلمة ، و ما قيس
على كلام العرب فهو من كلام العرب. وجمعُه على تفعيلاتٍ خلافُ السماع و القياس ،
وما ذكره الدكتور في قوله : ((وذهب بعضُهم إلى أن المصدر المزيد على ثلاثة أحرف
غير المؤكد لفعله يطَّرد جمعُه بالألف والتاء الزائدتينِ (جمع المؤنث السالم) ))
قولٌ مُحدث لا دليل عليه ، فلم يقل نحويٌّ - فيما أعلم - متقدّمٌ أو متأخّرٌ بجواز
جمع المصادر المجرّدة بالألف والتاء ، وإنّما هو قولٌ لبعض المعاصرين تأثّرًا
بظاهر الاستعمال .
٢- التفريق بين جمع المصدر النوعيّ وجمع المصدر
العددي مترتّب على كلام العرب والقياس الصحيح ، لا على قول الرضي كما يقول الدكتور
، وإنما كلام الرضي يُستشهد به اعتضادًا.
٣-
قال الدكتور : ((التباسُ الجمع (تخاريج) الذي مفردُه (استخراج) في مذهب النحويين،
بالجمع (تخاريج) الذي مفردُه (تخريج) في مذهب الرضي)) وهذا الإيراد غير متّجه،
وهو فهم غريب من الدكتور الفاضل؛ لأن الجمعَ (تخريجاتٍ) يمنعه، فالرضي يوازن بين
جمعين لمفرد واحد، فيقول إن تكسيرإكرامٍ وتخريجٍ : أكاريمُ وتخاريجُ ، وجمعهما
بالألف والتاء: إكراماتٌ وتخريجاتٌ، فأين اللبس؟ و لو أراد الرضي أن تخاريجَ جمعٌ
لـ(استخراج) لقال: تخاريج واستخراجات ؛ لأن الحذف يقع في التكسير دون جمع السلامة،
فقوله: تخريجات يزيل أيَّ لبس قد يرد، وهذا نصُّ الرضي لمن يريد تأمّلَه : (( ومنه
قولك الإكرامات والتخريجات والانطلاقات ونحوها؛ لأن الواحد: إكرامة وتخريجة بتاء
الوحدة، لا إكرام وتخريج. وجمع المجرد: أكاريم وتخاريج عند اختلاف الأنواع ،
فالإكرامات كالضربات والقتلات، والأكاريم كالضروب والقتول. فلذا يقال ثلاث إكرامات
وتخريجات بتجريد العدد من التاء، وثلاثة أكاريم وتخاريج إذا قصدت ثلاثة أنواع من
الإكرام ))
٤-
ينفي الدكتور أحمد ورود ( تغايير ) و( تخاريج ) في المعاجم، وهذا القولُ لا وجهَ
له ؛ لأن كلامنا في مسألة نحوية - بالمعنى العام - لا في مسألة لغوية يُتوقف فيها
على النقل، والنحو: علمٌ بمقاييسَ مستنبطة من استقراء كلام العرب، يقول ابن
الأنباري في لمع الأدلة ( ٩٥): (( فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو ، ولا نعلم
أحدًا من العلماء أنكره لثبوته بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة... وإذا بطل أن
يكون النحو روايةً ونقلًا وجب أن يكون قياسا وعقلا ، والسرّ في ذلك هو أن عوامل الألفاظ
يسيرة محصورة ، والألفاظ كثيرة غير محصورة ، فلو لم يجز القياس واقتُصر على ماورد
في النقل من الاستعمال لأدّى ذلك إلى ألّا يفي ما يُحصر بما لا يُحصر، ويبقى كثيرٌ
من المعاني لا يمكن التعبير عنها لعدم النقل))
٥-
حكم الدكتور على ( تغايير ) و ( تخاريج ) بأنهما معدومان في استعمال اللغويين،
فقال: ((انعدام استعمال الجمع (تغايير) في المعجمات اللغوية وفي استعمالات
اللغويين والنحويين والمفسرين دلالةٌ على عدم تسويغ استعماله)) ثم نقض كلامه بعد
سطرين وحكم بندور ( تغايير) فقال: ((وقد ندر استعمال الجمع المكسر (تغايير) عند
بعضهم؛ نحو ابن جني (سر صناعة الإعراب 2/472)، وابن سيده (المخصص4/210)، وابن
عطية (المحرر الوجيز 4/213)، والشاطبي (المقاصد الشافية7/432) )) وقال في ( تخاريج ): ((حمْلُ (تغايير) على (تخاريج) قياس نظري لا يستقيم سماعًا البتَّةَ ؛ لأن فيه
حمْل جمع مهجور الاستعمال (تغايير) على جمع آخر معدوم الاستعمال(تخاريج) ، فهو
قياس مجهول على مجهول )) وليس الأمر كما يقول الدكتور الفاضل ، فقد ثبت استعمال
تخاريج في كلام النحويين واللغويين ، ومهما يكن من أمرٍ فإن إثبات ( تغايير ) ليس
حملًا على ( تخاريج ) كما يقول ، وإنما تُحمل تغاييرُ وتخاريجُ على ما سُمع من
كلام العرب كتصاوير وتباريح وتباشير ، وتُقاس على ما ثبت عندهم في جمع الاسم
الخماسي المزيدِ قبلَ آخره حرفُ مدّ ، كتماثيل وقناديل وعصافير ونحوها.
6-
قال الدكتور : (( ولا يُعترَض بأنه قد سُمِع في جمع تفعيل تفاعيل فيُحمَل على
المسموع ؛ لأن المعترِض سيُعترَض عليه كذلك بأنه قد سُمِع في جمع تفعيل تفعيلات))
جمعُ تفعيلٍ على تفاعيلَ مسموعٌ عن العرب ومحمول على القياس المطّرد ، وأما جمعه
على تفعيلات فلم يثبت له سماعٌ أو قياسٌ معتبر .
٧- قال الدكتور أحمد : " من ذلك جمْعُ ابنِ
الوراق تغييرًا على تغييرات مما يفهم من سياق قوله: ((فإن قال قائل فلم صار
التغيير بالاسم أولى من الفعل قيل له إن الاسم يلحقه في آخره علامة الإضافة
والنسبة ويدخله التصغير والجمع المكسر والترخيم مع الإعراب فصارت تغييرات تلحق
الاسم دون الفعل فلما احتاجوا إلى تغييرأحدهما كان التغيير لما يلزمه التغيير في
كثير من أحواله ألزم وأولى مما لا يلزمه التغيير )). [علل النحو177]، وكذا فعل
السيرافي؛ إذ قال: ((تحركت السين وسقطت ألف الوصل فهذا تغيير ، وانقلبت الواو
ألفا ، فهذا تغيير ثانٍ ، وسكنت الدال الأولى وكانت متحركة، فأدغمت في الدال
الثانية ؛ فهذه تغييرات كثيرة مجحفة)).[شرح السيرافي5/247،دار الكتب العلمية]
" أقول : ليس في كلام ابن الوراق وكلام السيرافي ما يدل على أنّ مفرد تغييرات
هو تغييرٌ؛ إذ لفظة التغيير الواردة في كلام ابن الوراق يُراد بها الحدثُ (الفعل)
،والمقرّر أن المصدر لا يُجمع إلا إذا صار اسمًا وتجرّد من الحدثية ، ولو قُدّر
الفعلُ في كلام ابن الورّاق لاستقام الكلام، فيكون : (( فإن قال قائل فلم صار [أن
يُغيّر] الاسمُ أولى من الفعل قيل له إن الاسم يلحقه في آخره علامة الإضافة
والنسبة ويدخله التصغير والجمع المكسر والترخيم مع الإعراب ، فصارتتغييرات تلحق
الاسم دون الفعل، فلما احتاجوا إلى [أن يُغيّر] أحدُهما كان [ أن يُغيّر] ما
يلزمه [ أن يُغيّر] في كثير من أحواله ألزمَ وأولى مما لا يلزمه [أن يُغيّر])).[علل النحو177]، وأمّا السيرافي فكلامه ظاهرٌ في أن المراد بالجمع بيانُ عدد
التغييرات ، فهو جمع للمصدر العددي، بدليل وصفه المصدرَ بالعدد تقديرًا في الأولّ
وتصريحًا في الثاني و وصفِه للتغييرات بالكثرة ، ولو أردنا ذكرَ المحذوفِ المقدّرِ
لكان الكلام: ((تحركت السين وسقطت ألف الوصل فهذاتغيير [أولّ]، وانقلبت الواو ألفا
، فهذا تغيير ثانٍ ، وسكنت الدال الأولى وكانت متحركة، فأدغمت في الدال الثانية
[فهذا تغيير ثالث]؛ فهذه تغييرات كثيرة مجحفة)) فالمصدرُ العدديُّ إما أن يُعرف
بالبنية التي وُضعت له ، وإما أن يُعرف بالوصف للمصدر المجرّد ، وفي هذا يقول الرضي
رحمه الله: (( ويَعني بالعدد ما يدل على عدد المرات - معيّنا كان أو لا- وهو إما
مصدرٌ موضوعٌ له نحو: ضربت ضربةً وضربتين وضرباتٍ ، أو مصدرٌ موصوفٌ بما يدلّ عليه
، نحو: ضربته ضربًا كثيرًا)).
٨- ما ذكره الدكتور من تأنيث العدد في بعض كتب
أهل العلم قد أجيب عنه في مقالات سابقة ، وهو قليلٌ يمكن أن يُخرّج بلا تكلّف
وبُعدٍ إن ثبَت .
٩- قال الدكتور: ((وجمع الفيومي في
المصباح المنير في سياق حديثه في الجذر اللغوي (رهب) إفسادًا على إفسادات في سياق
واحد)) وأقول : إن المصدر المذكور في كلام الفيومي يُراد به الحدث ، بدليل
إعماله ، وهذا نصّه : ((والجواب عنه أنّ التعرّض بالذّم لم يكن لإفسادهم
العبادةَ بنوعٍ من الإفسادات المنهية عند الفاعل ، وهم لم يفسدوها على اعتقادهم...)) فحاله كحال كلام ابن الورّاق .
١٠- ردَّ جمهورُ النحاة قولَ بعضِ النحويين
الذين قالوا بمراعاة الجمع بالألف والتاء في قاعدة العدد ، مع أنّهم ذكّروا العددَ
في الاستعمال، فلم يبق إلا أنهم راعوا المفرد المقيس (اسم المرّة) . هذا ما أردت
التنبيه عليه، ومَن طلب ما يروي الغُلّة فلْيقصِد - غيرَ مأمور - ما كتبه أستاذنا
الدكتور عبدالرزاق الصاعدي في هذه المسألة تأصيلًا وتطبيقًا، ومَن قصَد البحرَ
استقلّ السواقيا.
سعيد
بن عبدالخالق