الجمعة، 16 ديسمبر 2016

القول الفصل في تأصيل "ستّ تغييرات" و"ستّة تغايير" (المقال كاملاً بأجزائه الثلاثة):

القول الفصل في تأصيل "ستّ تغييرات" و"ستّة تغايير"

الجزء الأول: التنظير النحوي والصرفي:
      خلاصة ما جاء في المقالة الأولى التي جعلتها بعنوان (الرضي يحسم النِّزاع في مسألة "ستّ تغييرات") أنّ الصّواب أنْ تقول: ستّ تغييرات وستّة تغايير، على قاعدة المغايرة بين لفظ العدد وما يضاف إليه؛ لأن مفرد تغايير: تغيير، وهو مصدر الرباعي فعّل، ومفرد تغييرات تغييرة، وهي اسم المرة من ذلك المصدر، وأن المصادر تلحقها تاء التأنيث لكل ما يراد به دلالة الوحدة أو المرّة، وهو القياس الذي يجري عليه الكلام، وأن هذا المصدر المؤنث يجمع جمع سلامة بالألف والتاء، وما خلا من تاء التأنيث يجمع جمع تكسير عند إرادة التنوّع، ويكون تكسيره على غير وزنٍ، وتكسير ما وزنه تفعيل على تفاعيل، وأنّ كلام العلماء في النوعين يجرى في مجمله على القاعدة، وتاج ذلك قول الرضي في شرح الكافية (القسم الثاني 1/ 687 طبعة جامعة الإمام) في حديثه عن جمع المؤنت السالم حين ذكر أن قياس المصدر الدالّ على المرة أن يجمع جمع سلامة بالألف والتاء، بخلاف المصدر الخالي من التاء فإنه يجمع جمع تكسير، فيقال: ثلاث إكرامات وتخريجات بتجريد العدد من التاء، وثلاثة أكاريم وتخاريج إذا قصدت ثلاثة أنواع من الإكرام؛ لأن أصل الجمع المكسر مذكّر: (إكرام وتخريج) وأصل المجموع بالألف والتاء مؤنث: (إكرامة وتخريجة).
      وكان فيما ذكرته في تلك المقالة غنية للنحويّ والفقيه اللغويّ وحجّة للقطع بصحة (ستّ تغييرات) ولكني رأيت الكلام يستطيل في المسألة ويتشعّب وينحرف بعضه عن الجادّة، فرغبت هنا في مزيدٍ من البحث والبسط ومزيد من المدارسة العلمية مع بعض الأكاديميين الفضلاء ممن خاض في المسألة ووافقني أو خالفني فجعل الصواب (ستّة تغييرات) مع إجازته (ستّ تغييرات) على وجه مرجوح لا راجح، وأما من زعم أنّ (ستّ تغييرات) لحنٌ وسخر من علمائنا الذين تكلموا بها وخطّأهم بغير هُدى ولا وجه حقّ مع خروجه عن أدبيات الحوار العلمي ولجوئه إلى الاستفزاز بأساليب سخيفة فليس للحوار معه أيّ فائدة تُرجى، ولا يُتشاغل بالرّدّ عليه، وكلامي هنا موجّه لأهل العلم والفضل، الذين يعرفون آداب الحوار وهم كُثُر، ومنهم الأستاذ سعيد بن عبدالخالق (وفهمه للمسألة دقيق ولا خلاف بيني وبينه) والأستاذ الدكتور سليمان العيوني، وهو يجيزها ولكنّه يخالفني في الترجيح، فعنده أن الأرجح ستّة تغيرات وأنّ ستّ تغييرات جائزة على ضعفٍ!، وكذلك الأستاذ الدكتور إبراهيم الشَّمسان، وهو يرى أن الفصيح ستّة تغييرات؛ لأن مفرد تغييرات –عنده- تغيير لا تغييرة، كما جاء في آخر مقالاته: (هل نقول: تغيير وستّ تغييرات؟) ويجيز ستّ تغييرات على ضعف، ويرى في توجيهها ما رأيته أوّل الأمر في بعض تغريداتي قبل كتابة مقالي الأول، وذلك باعتبار لفظ الجمع لا المفرد عند المخالفة بين العدد ومعدوده، وهو الرأي المنسوب للكسائي وبعض البغداديين ومنهم ابن قتيبة.. وخصصت الثلاثة بالذكر لأنّ غرضهم علمي، يريدون الوصول إلى الحقّ في المسألة، دون تسفيه الرأي المخالف، فلهم الشكر على ما تفضّلوا به من أُطروحاتٍ مهمّة في حواراتهم.
إن مفتاح هذه المسألة هو معرفةُ مفرد (تغييرات) ومفرد (تغايير) ويتبع معرفتهما الحكمُ على ضوء قاعدة مخالفة العدد معدوده في التذكير والتأنيث، ثم كيف جرى استعمال ذلك على ألسنة الأئمة الأعلام وأقلامهم؟ هذان سؤالان رئيسان يحسم جوابهما النزاع في المسألة، ويأتي بعد ذلك تفنيدُ اعتراضاتٍ رأيتها في بعض كلام أولائك الزملاء الفضلاء.. فإليكم تفصيل القول:

أولاً: كيف يجمع التفعيل مصدر فعّل؟
المصدر نوعان، ولكل نوع قياسٌ في الجمع:
الأول ما خلا من تاء التأنيث، والأصل فيه ألا يجمع، لدلالته على الحدث المجرد، وجمعه بمنزلة تكرير الفعل، والفعل لا يثنى ولا يجمع، فإن أُريد به الأنواع أو خرج عن المصدرية وانجذب إلى الاسمية جُمع جمع تكسير، لما فيه من معنى الاسمية، وحديثنا هنا عن التفعيل مصدر فعّل، فقياسه أن يجمع على تفاعيل؛ لأنّ ما قبل آخره حرف مدّ، كتفعيل وتفعال وتفعول وما يحمل عليها من السداسي كاستخراج، فيقال في تحميد وتقدير وتغيير مما جاء على تفعيل: تحاميد وتقادير وتغايير، وكذلك أخواتها في هذا الباب وما انجذب منه إلى الاسم، لما فيه من معنى الاسمية، وعلى هذا جرى استعمال الأئمة في كتبهم.
ومما سمع منه: (التَّصاوير) جمع تصوير، جاء في أحاديث تحريم التصوير، ومنها ما في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها ((أنّها أخبرتهُ أنّها اشترتْ نُمْرُقَةً فيها تَصاوِير)) (البخاري ح 2105 وأخرجه مسلم في اللباس والزينة باب تحريم تصوير صورة الحيوان. رقم 2107) وقال ابن معصوم (الطراز الأول (صور) 8/ 271) ((التَّصَاوِيرُ: التَّماثِيلُ، واحِدُهَا تَصْوِيرٌ، وهو في الأصلِ مصدرٌ سُمِّيَ به ما يُصَوَّرُ ويجعلُ صُورةً)).
ومنه (التهاويل) جمع تهويل، ففي العين (هول 4/ 87): ((التَّهاويل: جماعة التَّهويل))، وفي الصحاح (هول) 5/ 1855): ((والتهويل: التفزيع. والتهاويل: ما هالك من شئ. وهَوَّلَ القومُ على الرجل))، وقال ابن سيده (المحكم هول 4/ 304): ((قد هَوَّلَ عليه، والتَّهوِيل: ما هُوِّلَ به، قال:
على تَهـاوِيلَ لَها تَهْوِيلُ
... والتَّهاوِيلُ: زِينَة التصاوير والنقوش وَالثيَاب والحلى، واحدها تَهْوِيلٌ)). وقال الفيروزي (القاموس هول 1386): ((والتَّهاويلُ: الألوانُ المختلفة، وزينة التّصاوير والنُّقوش والحَلْي، والتَّهْوِيلُ: واحِدُها)).
     وسيأتي في الجزء الثاني من هذا المقال مزيدٌ من الأمثلة مما جمع على تفاعيل من مصادر جاءت على التفعيل، وهي متّسقة مع القياس لا تندّ عنه، ولذا توسّع فيها العلماء وأجروها في أساليبهم وولّدوا منها ما شاؤوا لعلمهم باطرادها في القياس.
    وما يجمع جمع تكسير في هذا الباب وغيره لا يجمع بالألف والتاء، إلا في ألفاظ قليلة مرصودة حكم عليها النحويون بالشذوذ، وذكروها في كتبهم، ولا يجيزون خروج الباب عن هذا الحدّ إلا على طريق النادر لعلةٍ صحيحة، (ينظر: شرح الرماني 737 تحقيق د. أحمد المعبّدي) لأنه لا حاجة إلي جمعه بالألف والتاء حين يُكسّر، وقال أبو علي الفارسي فيما نقله عنه ابن سيده (المخصص 14/ 119): ((إنما يجمع بالألف والتاء ما لم يكسّر ليكون ذلك كالعِوض من التكسير، فأما ما كُسّر فلا حاجة بنا إلى جمعه بالألف والتاء))، وتوهموا في بعض ما خرج عن قاعدتهم التأنيث حين جاء بالألف والتاء، كأَهْل وأَهَلات وإن كانوا قد قالوا: أهالٍ؛ لأنهم قد توهّموا به: أهْلة. (ينظر: المخصص 14/ 119) وقال ابن مالك بعد أن ذكر ما يجمع بالألف والتاء قياسًا مطردًا: ((وما سِوى ذلك مقصور على السماع)) (شرح التسهيل 1/ 112)، ولذا حاولوا حصر ما خرج عن القياس، قال ابن مالك: (شرح التسهيل 1/ 114): ((فلا يجمع شيء من هذه الأسماء والصفات ونحوها بالألف والتاء إلا إذا سمع، فيعد من الشواذ عن القياس، ولا يُلْحقُ به غيره، فمن الشاذ: سماء وسماوات، وأرض وأرَضات وعُرُس وعُرُسات وعِير وعِيرات، وشمال وشمالات، وخَوْد وخَوْدات، وثَيِّب وثَيِّبات. وأشذّ من هذا الجمع بعض المذكّرات الجامدة المجردة، كحسام وحسامات، وحمّام وحمامات، وسرادق وسرادقات، وكل هذا شاذ مقصور على السماع)).
      ولم أجد فيما شذ عن القياس وذكروه في كتبهم شيئًا من باب (تفعيل) فيعلم بذلك أنه كغيره في القياس المطرد، يجمع جمع تكسير، ولا يجمع جمع سلامة بالألف والتاء، فليس لأحد أن يدّعي أن تغييرًا جُمِعَ على تغييرات؛ لأن القياس يأبى هذا وليس ثمة سماع به، فهو مما كُسِّر على تغايير ومنع من تغييرات، فإن قال: إنهم يقولون في أساليبهم: (فيه من التغيير عدة تغييرات) (وهناك تغييرات: الأول منها) ونحو هذا، قلتُ: هذا منقوض بما سيأتي في الجزء الثالث إن شاء الله.

     والثاني ما فيه تاء التأنيث من المصادر، وهو ما دلّ على الوحدة، ويسمّى اسم المرّة، ويجمع قياسًا بالألف والتاء، وباب هذا الجمع أن يكون للمؤنث الذي فيه علامة التأنيث أو المذكر المسمى باسمٍ فيه هاء التأنيث أو المنعوت بنعت فيه هاء التأنيث، كما يقول السيرافي (شرح الكتاب 14/ 240)، وهو عند التفصيل جمعٌ لخمسة أشياء أوجزها ابن مالك في التسهيل بقوله: ((يُجْمَعُ بالألف والتاء قياسًا، ذُو تاء التأنيث مطلقا، وعلمُ المؤنث مطلقا، وصفة المذكر الذي لا يعقِل، ومُصَغَّرُه، واسمُ الجنس المؤنث بالألف إن لم يكن فَعْلى فَعْلان أو فَعْلاء أفعل غير منقولين إلى الاسمية حقيقة أو حكما. وما سِوَى ذلك مقصور على السماع)) (التسهيل 20 وشرحه 1/ 113) وقال: ((ذو تاء التأنيث مطلقا)) ليدخل في ذلك العَلَم واسم الجنس والمدلول فيه بالتاء على تأنيثٍ أو مبالغةٍ أو اسم مَرّةٍ في المصدر، وما سِوى هذه الأنواع الخمسة مقصور على السماع كما قال (شرح التسهيل 1/ 114)، فيحفظ ولا يقاس عليه، كما يقول ابن عقيل في المساعد 1/ 76، وأصل هذا قول سيبويه: (3/ 615) في باب (ما يجمع من المذكّر بالتاء لأنه يصير إلى تأنيثٍ إذا جمع): ((فمنه شيءٌ لم يُكسّر على بناء من أبنية الجمع بالتاء إذ مُنِعَ ذلك، وذلك قولهم: سرادقاتٌ، وحمَّاماتٌ، وإواناتٌ، ومنه قولهم: جملٌ سبحلٌ وجمالٌ سبحلاتٌ، وربحلاتٌ، وجمالٌ سبطراتٌ. وقالوا: جوالقٌ وجواليقُ فلم يقولوا: جوالقاتٌ حين قالوا: جواليق))، ثم قال عَقِيب هذه الشواذّ: ((فهذه حروف تُحفظ ثم يُجاء بالنظائر)) يعني الجمع بالألف والتاء فيما ليس فيه هاء، كما يقول السيرافي (شرح السيرافي 14/ 241).
      وجاء جمع تلك الشواذ بالألف والتاء تعويضا لها عما فاتها في بابها وهو جمع التكسير، كما قال الفارسي فيما سبق نقله، وإلى هذا يشير الرماني في الشرح (737 تحقيق د. أحمد المعبدي) فيقول: ((ليكون عوضا مما منع من ذلك، ولا يجوز خروجه عن هذا الحد إلا على طريق النادر لعلة صحيحة. وجُمِعَ سرادق: سرادقات؛ لأنه لم يكسّر، وكذلك حمّام وحمّامات)). كما أن ما جمع بالألف والتاء لا يجمع جمع تكسير، فــ((ـلا يجوز في جوالق: جوالقات؛ لأنه كُسِّر على جواليق، ولا يجوز خِنْصِرات ولا مِحْلجات لقولهم: خناصر ومحالج، وإن كان تكلم به المولّدون، ومذهب العرب فيه على ما بيّنا، ويجوز عِيرات حين لم يكسّروها، وجاء على طريق النادر بُوان وبُوانات وبُون، ووجهه أنه جمع بُوانات على قياس الباب، ثم احتيج إلى تكسيره فقيل: بُون على التشبيه بغيره من نحو: خِوان وخُون))، وقريب من هذا ما في شرح التسهيل (1/ 114) لابن مالك.
     ويزيد أبو حيان (التذييل 2/ 100) المسألة بيانًا إذ يقول: ((وبعض هذه الأسماء كُسّر، ومنهم من فصل في ذلك، فقال: إما أن يكون المذكر المكبر جُمع جمع تكسير أو لا، وكذلك أيضاً المؤنث المكبر الذي ليس بعلم، ولا فيه علامة تأنيث، إما أن يكون جُمِعَ جمع تكسير أو لا، فإن كان النوعان جُمعا جمع تكسير فلا يجوز أن يجمعا بالألف والتاء، وذلك نحو: جُوالق وأرنب وخِنْصِر... وقد شذّ من ذلك بُوان وبُوانات وعُرس وعُرسات وضِفْدَع وضِفْدِعات؛ لأنّ العرب قد كسّرتها، فقالوا: بُونٌ وأعراسٌ وضَفادع، ولذلك لُحِّنَ أبو الطيب في قوله:
إذا كان بعضُ الناسِ سَيفاً لدولة       ففي النـاس بُوقاتٌ لها وطُبُـولُ
فجمع بُوقاً على بُوقات وقد كسّرته العرب فقالوا: أبواق.
     وإن لم يكونا جُمِعا جمع تكسير جاز أن يجمعا جمع سلامة بالألف والتاء قياساً مطرداً. وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أخيراً، فتقول في: حَمّام وسِجِلّ وسُرادق وإصْطَبْل: حَمّامات وسِجِلّات وسُرادقات وإصطبلات. وهذا المذهب هو ظاهر كلام سيبويه))، وهو يريد ما ذكرتُهُ آنفا من كلام سيبويه.
ولهذا كله قال الرضي (القسم الثاني 1/ 687 طبعة جامعة الإمام) قولته الفذّة عند حديثه عن جمع المؤنث السالم: ((ومنه قولك الإكرامات والتخريجات والانطلاقات ونحوها؛ لأن الواحد: إكرامة وتخريجة بتاء الوحدة، لا إكرام وتخريج. وجمع المجرد: أكاريم وتخاريج عند اختلاف الأنواع (يعني حين يجوز جمعه) فالإكرامات كالضربات والقتلات، والأكاريم كالضروب والقتول. فلذا يقال ثلاث إكرامات وتخريجات بتجريد العدد من التاء، وثلاثة أكاريم وتخاريج إذا قصدت ثلاثة أنواع من الإكرام))؛ لأنه وجد أن المصادر بغير التاء تجمع جمع تكسير، فجعل بابها التكسير، على ما جاء في كلام العرب، وباب اسم المرة التأنيث على القياس، فالأصل أنّ كل ما جاء من المصادر مجموعا بالألف والتاء فهو للمرّة (تفعيلة) وكل ما جاء مكسّرا فمفرده مذكر (تفعيل) ولا يختلط هذا بهذا إلا في السهو أو الوهم أو التوهّم، كما سيأتي.
      وبهذا يظهر جليا لكل ذي نظر أنّ الصّواب الذي يوافق كلام العرب وما استقرّ لدى النّحويّين أنّ يقال: ستّ تغييرات وستّة تغايير، ولا يقال: ستّة تغييرات، خلافًا لأصحابنا، أعني الدكتور إبراهيم الشمسان والدكتور سليمان العيوني.
      وسيأتي الكلام في الجزء الثاني على الشواهد وأساليب العلماء مما يثبت ما ذهبت إليه ويقطع به.
ويليه إن شاء الله ذكر الملحوظات وتفنيد الاعتراضات.

(يتبع) الجمعة 2 / 12/ 2016م

الجزء الثاني: شواهد الجمع وأساليب العلماء

     رأينا في التنظير النحوي كيف يكون جمع المصدر، وكيف يفرّقون في الجمع بين المذكر والمؤنث (اسم المرة) فيجعلون التكسير للمذكّر والسلامة للمؤنث، ويحفظون الشواذ ولا يقيسون عليها، وعند إمعان النظر في كلام العرب وأساليب الأئمة العارفين بأحوال اللغة يستبين بجلاء مراعاتهم لتلك القاعدة المبنيّة على رصيد من النصوص والأساليب، فـيجري جمع التفعيل في كلامهم على (تفاعيل)، ويجري اسم المرة منه على (تفعيلات)، ولا ينكسر ذلك إلا عند ساهٍ أو واهم أو متوهّم.. وإليك الشواهد والأساليب:

أولا: شواهد الجمع على تفاعيل وتفعيلات:
1- تفاعيل:
      تقدم في التنظير ذكر بعض الشّواهد لجمع تفعيل على تفاعيل، مما كان مصدرا أُريد به النوع أو انجذب إلى الاسمية، وبقي على حكمه الصرفي، وأذكر هنا مزيدا من الشواهد:
(التصاريف) قال أبو الأسود الدؤلي (لباب الأدب لابن منقذ 22):
رأيتُ تصاريفَ الزمانِ بأهلِهِ     وبينَهُمُ فيه تكونُ النَّوائبُ
 و(التباريح) و(التكاليف) و(التباشير) قال التبريزي في (شرح ديوان أبي تمام 4/ 158ب3): ((والتباريح: جمع تبريح، كما قالوا التكاليف في جمع التكليف، والتباشير في جمع التبشير، وأصل المصادر ألا تجمع، وربما استحسنوا فيها ذلك إذا اختلفت الأنواع)).
وقال الزمخشري (الأساس 23 بشر): ((تباشير الصبح وهي أوائله التي تبشّر به، كأنها جمع تبشير وهو مصدر بشّر))، وقال الأصبهاني في (المجموع المغيث 1/ 161): ((تَباشِير الصُّبح، وهو مَصْدر بَشَّر، لأن طلوعَ فاتحة الشَّىءِ كالبشارة به)).
وقال الفيروزي (القاموس برح 272): ((بَرَّحَ به الأَمْرُ تَبْريحاً، وتباريحُ الشَّوْقِ: تَوَهُّجُهُ))، وللتباريح شواهد كثيرة، منها قول الطرماح (ديوانه 96): 
وذِكْراكِ مالم تُسْعِفِ الدارُ بَيْنَنا     تباريحُ مِنْ عيشِ الحياةِ المبرّحِ
ويرى بعضهم أن التَّعاشِيب والتَّعاجِيب والتَّباشِير جموعٌ لا واحد لها، ولعلها مما غلب جمعه مفردَه فأخمل استعماله، فيعدّ مفرده من المتروك؛ لأن المفرد أصل الجمع، وقد ذكرتُ هذا في (موت الألفاظ) (ص390 مجلة الجامعة الإسلامية).
و(التّقاديم): قال الطبري: (جامع البيان 14/ 295 وينظر الدر المنثور للسيوطي 6/ 502): ((حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم، قال: هذه من تقاديم الكلام))، قال محمود شاكر في الحاشية: ((وهي جمع "تقديم" كأمثاله من قولهم "التكاذيب"، "والتكاليف"، و "التحاسين"، و "التقاصيب"، وما أشبهها)).
و(التّحاسين)، قال الأزهري: ((والتَّحاسِين: جمع التحسين، اسمٌ بُنِي على تَفعيل، ومثله تكاليفُ الأُمُور)) التهذيب (4/ 316 حسن) : وقال ابن سيده: ((وكتاب التحاسين، خلاف المشق، ونحو هذا يجعل مصدرا ثمَّ يجمع، كالتكاذيب والتكاليف، وليس الجمع ِفي المصدر بفاشٍ ولكنهُم يجرونَ بعضه مجرى الأَسماء ثمّ يجمعونه)) (المحكم 3/ 144 حسن) يقصد أن الأصل في المصادر ألا تجمع، فحين تجرى مجرى الأسماء أو يراد الأنواع تجمع. وقال سويد بن أبي كاهل (التذكرة الحمدونية 4/ 75، ونُسِب في عيون الأخبار 4/ 64 لبعض النهشليين مع اختلاف القافية):
هو زينُ الوجهِ للمرءِ كما   زينَ الطرفَ تحاسينُ البلقْ
و(التفاطير): أَوَّلُ نَباتِ الوَسْمِىّ، والتَّساخِينُ: الخِفافُ، لا واحد لها مثل التَّعاشِيب.
و(التّجاويد) في قولُ صَخْرِ الغَيِّ:
يلاعِبُ الريحَ بالعَصْرَينِ قَصْطَلُهُ     والوابِلُونَ وتَهْتــانُ التَّجــاويدِ
و(التواكيد) (ديوان الأدب للفارابي 1/ 269  والصحاح  جمع 3/ 1200) والتحاميد (أساس البلاغة حمد) (والتماديح) في قول أبي ذُؤَيب (الجليس الصالح 43):
لَوْ أنَّ مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرِ أَحدَا      أحْيَا أَبَاكَ لَنَا طُولُ التماديحِ
والتواجيه والتفاريع والتخاريف والتحاريف والتقادير والتعاويض والتّباعيض والتّضاعيف والتصانيف والتآليف والتخاريج والتكاليف والتقاطيع والتقاسيم والتعابير والتعاليل والتكابير والتصاغير والتنابيه والتقازيح والتهاويل والتعاسيف.. وكل هذا تكسير تفعيل، وهو يجري على أصله في قياس الباب، ومنه (التغايير) جمع تغيير، وقد جاءت في كلام ابن جني (سر الصناعة2/ 137) وابن سيده (المخصص 4/ 210 تحقيق جفال) وابن عطية (المحرر الوجيز 4/ 213) وحازم القرطاجَنّي (منهاج البلغاء 244) والشاطبي (المقاصد 7/ 432) فهي كأخواتها، ومفردها التغيير.

2—تفعيلات:
     وهذا الجمع السالم يأتي على القياس الذي ذكرته في التنظير، وهو قليل الورود في المعاجم؛ لأنهم لا يذكرون المشتقات القياسية وجموع السلامة إلا في النزر اليسير، وتراه أكثر ما تراه في النصوص والأساليب، والمولّدون في القرن الثالث وما بعده مولعون به، حتى لا يكاد يخلو كتاب من كتبهم منه، ومن لا يعرف بابه يهم فيه فيظنه جمع التفعيل وليس به، فهو جمع المؤنث بالتاء (تفعيلة) كما تقدم بيانه. ومنه: تسليمات وتكبيرات وتحميدات وترويحات وتطليقات وتأويلات وتسبيحات وتبخيرات وتوجيهات وتمثيلات وتأكيدات وتوكيدات وتقسيمات وتصحيحات وتوزيعات وتفسيرات وتهويمات وتشبيهات وتصغيرات وتهليلات وتفريعات وتضعيفات وتصريفات وتعقيبات وتصحيفات وتغييرات.
    وقد يذكرون الجمعين في موضع واحد أو صفحة واحدة، كالتسابيح والتسبيحات (أساس البلاغة سبح 200) والتحاميد والتحميدات (المثل السائر 3/ 108) والتفاريع والتفريعات (فيض الباري 14/ 2513)، والتكاليف والتكليفات (تفسير السمعاني 4/ 153) والتفاسير والتفسيرات (التحرير والتنوير 23/ 53) والتصاريف والتصريفات (دمية القصر 2/ 1018)، ولكل من الجمعين مفرده كما لا يخفى.

ثانيا: أساليب الأئمة في العدد مع تفعيلات:

     جاء العدد من الثلاثة إلى العشرة في الجمعين من هذا النوع من المصادر على القياس المعلوم، وهو المخالفة بين العدد ومعدوده في التذكير والتأنيث، وهو يجري على ألسنة الأئمة الأعلام وأساليبهم فيما يكتبون في اللغة والأدب والتفسير والحديث والفقه، يقيسونه على المسموع القليل عن العرب لاشتداد الداعي إليه، ولأن لغة العلوم والآداب تقتضيه، فهي تحتاج إلى تجديد المعاني وتوليدها حيثما اتجه الفكر، فقالوا: ثلاثة تغايير، وثلاث تغييرات، وكذلك ما جاء على مثالهما، ولم يشذ عن هذا إلا من سَها أو وَهِم، وجمعت هنا شيئا مما وقفت عليه في هذا الباب، لنرى طريقتهم في العدد فيه، فهو حاسم في خلافنا إذ يتمّم ما جاء في التنظير، فمن ذلك:

   1-  (ثلاث تصحيفات) خلف الأحمر (ت 180هـ) (تصحيح التصحيف 523)، ونصه كما نقله الصفدي: ((قال خلف الأحمر: أخذتُ على المُفضَّل في يومٍ واحدٍ ثلاث تصحيفاتٍ)).


   2- (أربع توكيدات) أبو الهيثم الرّازيّ (206هـ) في (التهذيب 1/ 39 المقدمة، و2/ 52 بصع). قال الأزهري: ((أخبرني أبو الفضل المنذريّ عن أبي الهيثم الرّازيّ أنه قال: العَرَب تؤكّد الكلمة بأربع توكيدات)).

   3- (ثلاث تأويلات) أبو بكر الأنباري 328هـ (الزاهر 2/ 376)

   4- (ثلاث تقديرات) أبو جعفر النحاس (338هـ) في (معاني القرآن 4/ 464).

  5- (ثلاث تغييرات) أبو سعيد السيرافي 368هـ (شرح كتاب سيبويه) وفي النسخة التجارية (ثلاثة) وهو تحريف، والصواب (ثلاث) كما في النسخ الخطية، ومنها نسخة نور عثمانية رقم 4590 اللوحة 526أ، ونسخة نور عثمانية رقم 4591 اللوحة 578 أ ونسخة مكتبة فيض الله برقم 1983 اللوحة 435أ (وستأتي صورها في ذيل المقال).

   6- (أربع تجنيسات) أبو هلال العسكري ( 395 هـ) في (الصناعتين للعسكري 330).

   7- (ثلاث تأويلات) أبو الحسن الماوردي 450هـ (النكت والعيون 1/ 244).

   8- (ثلاث تقديرات) بدر الدين الكرماني 505هـ (غرائب التفسير 1/433).

   9- (ثلاث تأويلات) ابن عطية 542هـ (المحرر الوجيز 11/ 93 ).

   10- (ثلاث تأويلات) لابن العربي المعافري 543 (المسالك في شرح موطأ مالك 2/ 481).

   11- (ثلاث تطهيرات) القاضي عياض اليحصبي 544هـ (إكمال المعلم بفوائد مُسلِم 5/ 10).

   12-  (ثلاث تفسيرات) الفخر الرازي 606هـ (مفاتيح الغيب 4/ 69). 

  13-  (غيرت ثلاث تغييرات، أو حولت ثلاث تحويلات) ابن الأثير 606هـ (النهاية 1/ 463 مادة (حول) بتحقيق طاهر الزاوي ومحمود الطناحي و3/ 1077 مادة (حول) تحقيق أحمد الخراط)، وذكرت المحققين للطبعتين لمكانتهم الكبيرة.

   14- (خمس تغييرات) أبو البقاء العكبري 616هـ (التبيان في إعراب القرآن 1/ 66).

   15- (ثلاث تسبيحات) أبو القاسم الرافعي القزويني 623هـ ( شرح مسند الشافعي 1/ 341).

   16- (ثلاث تمثيلات) ضياء الدين ابن الأثير الجزري 637هـ  (الجامع الكبير في صناعة المنظوم 151).

   17- (ثلاث تقديرات) القرطبي 671هـ (الجامع لأحكام القرآن 11/ 228).
 
   18- (ثلاث تفريعات) رضي الدين الاستراباذي 686هـ (شرح الشافية للرضي 1/ 40).

   19- (أربع تغييرات) عبدالواحد المالقي 705هـ (الدرّ النثير 2/ 43).

   20-  (ثلاث تغييرات) أبو زيد المكّودي 707هـ (شرح المكّودي 345).

   21-  (ثلاث تغييرات/ ثلاث تحويلات) ابن منظور (711هـ) (اللسان 11/ 188 حول).

   22- (ثلاث تبخيرات) الشهاب أحمد النويري 733هـ  (نهاية الأرب 12/ 106).

   23- (ثلاث تغييرات) أبو حيّان الأندلسي 745هـ (ارتشاف الضرب 2/ 599).

    24- (ثلاث تأويلات) أبو حيان الأندلسي 745هـ (البحر المحيط 6/ 346).

   25- (ثلاث تغييرات) المرادي المعروف بابن أمّ قاسم 749هـ (توضيح المقاصد 5/ 121 طبعة المكتبات الأزهرية، القاهرة 1397هـ - 1977م) وجاء العدد مؤنثا بالتاء (ثلاثة) في طبعة دار الفكر العربي (ص 5/ 1443) بيروت 1428هـ والمكتبة الشاملة، وهو وهم، والصواب في الطبعة القديمة المشار إليها، وكذلك في تحقيق فخر الدين قباوة (شرح الألفية للمرادي 2/ 360) وعند الرجوع إلى نسختين خطيتين للكتاب تبيّن أن النص فيهما على الصواب بما يوافق الطبعة القديمة وطبعة قباوة: ثلاث تغييرات، (انظر نسخة مكتبة الملك عبدالعزيز 4068 اللوحة 123أ، ونسخة مكتبة الملك عبدالعزيز 4066 اللوحة 189ب)  (وستأتي صور للمخطوط في ذيل المقال)

   26- (ثلاث تأويلات) ابن عادل الحنبلي 770هـ (اللباب في علوم الكتاب 13/ 500).
   27- (ثلاث تأكيدات) بهاء الدين السبكي 773 هـ (عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح 2/ 100).

   28- (ثلاث تأويلات) شرف الدين النووي 787ه (المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 10/ 156).

   29- (ثلاث تغييرات) أبو إسحاق الشاطبي 790هـ (المقاصد الشافية 9/ 293) قال: ((في سادَّ ثلاثُ تغييراتٍ))، فغيرها المحقق (د. محمد إبراهيم البنا) وجعلها ثلاثة، وقال في الحاشية: ((في النسخ: ثلاث)) فغلّب بذلك اجتهادَه وأهمل ما في النسخ، ووقفت على نسخة الإسكوريال برقم 15 اللوحة 123وهي مقابلة بتاريخ 832هـ في حياة المصنف، وفيها: (ثلاث تغييرات) (وستأتي صورتها في ذيل المقال).

   30- (ثلاث تغييرات/ ثلاثة تغييرات) البدر الدماميني 827 هـ (العيون الغامزة 154) كذا في المطبوع، ونسخه الخطية مضطربة، فبعضها جمع بين الكلمتين، كما في المطبوع، وبعضها جعلها (ثلاثة) في الموضعين، وهو وهم، صوابه: ثلاث في الموضعين.

   31- (ثلاث تغييرات) بدر الدين العيني 855هـ (شرح سنن أبي داود 2/ 438).

   32- (ثلاث تشبيهات) بدر الدين العيني 855 هـ (عمدة القارئ شرح صحيح مسلم 2/ 80).

   33- (ثلاث تغييرات) ابن الهمام 861 هـ (فتح القدير 7/ 147).

   34- (ثلاث تأويلات) أبو زيد الثعالبي 875هـ (الجواهر الحسان 1/ 188).

   35- (ثلاث تغييرات) خالد الأزهري 905هـ (التصريح على التوضيح 5/ 186) وفي مطبوعة أستاذنا الدكتور عبدالفتاح البحيري: ثلاثة تغييرات، وهو سهو أو وهم، والصواب ما في النسخ الخطية، ومنها نسخة الملك سعود رقم6235 مصورة عن النسخة الظاهرية (النحو) 90 اللوحة 569أ، ونسخة (الكتب المصرية ترجيحا) ورقمها 964 نحو اللوحة 261أ (وستأتي صورها في ذيل المقال).

   36- (ثلاث تغييرات) السيوطي (910هـ) في (همع الهوامع 3/ 393).

   37- (ثلاث تغييرات) عبدالرحمن الأشموني 900هـ (شرح الأشموني 4/ 177).

   38- (ثلاث تغييرات/ ثلاث تحويلات) محمد طاهر الصدّيقي 986هـ (مجمع بحار الأنوار 1/68).  

   39- (خمس تغييرات) الشهاب الخفاجي 1069هـ (عناية القاضي (2/ 264).

   40-  (ثلاث تغييرات) عبدالقادر البغدادي 1093هـ (خزانة الأدب 11/ 276)

   41-  (ثلاث توجيهات)  عبدالقادر البغدادي 1093هـ (خزانة الأدب 1/ 431) بتحقيق هارون وفيها: ثلاثة توجيهات وهو وهم، والصواب من نسخة المصنف البغدادي بخط يده، وستأتي صورتها في ذيل المقال.
   
    41- (ثلاث تغييرات) محمد الخضري الدمياطي 1287هـ (حاشية الخضري على شرح ابن عقيل 2/ 169).

  وستأتي تتمة المقال في الجزء الثالث وفيه ملحوظاتٌ مهمة وتفنيدٌ لبعض الاعتراضات.
  
  صور لبعض المخطوطات

شرح السيرافي، مكتبة نسخة فيض الله برقم 1983 اللوحة 435أ
*****

شرح السيرافي، نسخة نور عثمانية برقم 4590 اللوحة 526أ
*****

شرح السيرافي، نسخة مكتبة نور عثمانية برقم 4591 اللوحة 578أ
وهي منقولة عن نسخة عالية
*****

توضيح المقاصد والمسالك للمرادي، نسخة مكتبة الملك عبدالعزيز
 برقم 4066 اللوحة 189ب
*****

وضيح المقاصد والمسالك للمرادي، نسخة مكتبة الملك عبدالعزيز
 برقم 4068 اللوحة 123أ
 *****


المقاصد الشافية للشاطبي، نسخة الإسكوريال برقم 15 اللوحة 123
وهي مقابلة بتاريخ 832هـ في حياة المصنف
*****

التصريح على التوضيح، لخالد الأزهري، نسخة مكتبة فيض الله
 برقم 1941 اللوحة 196أ وتاريخ نسخها 976هـ
*****

التصريح على التوضيح لخالد الأزهري، نسخة مكتبة الملك عبدالعزيز
 برقم 1967 اللوحة 301ب
*****

التصريح على التوضيح لخالد الأزهري، دار الكتب المصرية
 برقم 964 اللوحة 261أ
*****

التصريح على التوضيح لخالد الأزهري، نسخة مكتبة الملك سعود
 برقم 1003 اللوحة 569أ
*****

همع الهوامع للسيوطي، نسخة الإسكوريال برقم 105 فلمية اللوحة 148أ
وهي موافقة للمطبوع
*****

خزانة الأدب، لعبدالقادر البغدادي، بخطة، مكتبة فيض الله
برقم 1952 اللوحة 105أ
 *****


خزانة الأدب، لعبدالقادر البغدادي، مكتبة فيض الله
برقم 1952 وهي بخط يده
-------------------------------

الجزء الثالث: ملحوظات وتفنيد اعتراضات

      فرغنا في الجزءين السابقين في مسألة ست تغييرات من (التنظير النحوي والصرفي) ثم (الشواهد وأساليب العلماء) من أصول كتبهم المخطوطة، ورأينا أنّ استعمال الأئمة الأعلام جاء موافقًا قاعدةَ العدد من الثلاثة إلى العشرة في (تغييرات) وأخواتها، وأنهم حين يُذكّرون العدد مع المجموع على زنة (تفعيلات) يكون ذلك عن وعيٍ منهم بالمفرد، وبما تقتضيه قاعدة الجمع التي بسطتُ القول فيها، وأنهم لم يتواطؤوا على خطأ، كما يظن من لا يُحسن فهم الدقائق في هذه الصناعة، ويبقى في تتمة المسألة وقفات تتصل ببعض اعتراضاتٍ وأساليبَ، وهي:

   الوقفة الأولى: أن العرب تجمع المصادر جمع تكسير حين إرادة النوع أو الأجناس؛ كالضروب والقتول والأنظار والضّيوم، وإذا أرادوا تعداد المرات جمعوه جمع سلامة بالألف والتاء، فقالوا: ضربات وقتلات ونظرات وضيمات؛ لأنهم يجمعون ضربة وقتلة ونظرة وضيمة، وكذلك يفعلون في مصادر فعّل، كما تقدّم، فمن يقول: ست تغييرات إنما يريد: مرات وقوع التغيير، لا أنواعه، وهذا عين المراد في قول خلف الأحمر والسيرافي والمرادي، وغيرهم، فهم يريدون عدد التغييرات لا أنواعها، ولذا يقول القائل: ست تغييرات إذا أراد المرّات والتعدّد، وستة تغايير إذا أراد أنواع التغيير، وإرادة المرّات قد تكون مع اتفاق النوع أو اختلافه، وهذا ملحظ دقيق في العربية، ولكنّ كثيرا من المولدين يتساهلون فيه، فيخلطون في الجمعين بين المعنيين الأنواع والأعداد، فيخالفون الأصل اتساعًا.

    الوقفة الثانية: أن الاحتجاج بأن المفرد المؤنث (تغييرة) لم يرد في المعاجم مردود بأنّ تغييرة اسم مرة من المصدر (تغيير) واسم المرّة معلوم بالقياس، ولا يلزم في بابه سماع، وهو كغيره من المشتقات القياسية التي تسكت عنها المعاجم اختصارا؛ لأنها في حكم المعلوم، كسائر القياسيات المجمع عليها، و((ليس كل ما يجوز في القياس يخرج به سماع، فإذا حذا إنسان على مُثُلهم وأمّ مذهبهم لم يجب عليه أن يورد في ذلك سماعًا ولا أنْ يرويه رواية)) كما يقول ابن جني (الخصائص 1/ 362 )، ((ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول وإنما سمعت البعض فقست عليه غيره؟)) كما يقول أيضا (الخصائص 1/ 369), ولولا هذا ما عرف العلماء مفردات جموع لا واحد لها من أصل الوضع، أو أميت واحدها واندثر، ألم يقولوا إن التَّعاشيب والتباشير والتَّساخين والتَّعاجيب جموع لا واحد لها؟ فأنت تراهم يقدّرون المفرد ويقولون إنه: تعشيب وتبشير وتسخين وتعجيب؟ ويجرون على هذا التقدير قاعدة العدد على وجهها النحوي، ويراعون مفردًا متروكًا لم تنطق به العرب، ويتركون لفظَ الجمع الذي فيه معنى التأنيث والجماعة، فيقولون: ثلاثة تعاشيب ولا يقولون: ثلاث تعاشيب. أليس في ذلك دليلٌ قاطع على أنّ المفرد عندهم حاضر في أذهانهم بالقياس سمع أو لم يسمع؟ وفي هذا يقول محمد الطنطاوي في تصريف الأسماء ص 233 عندما ذكر جموعًا لا واحد لها: ((فتلك الجموع لا خلاف بينهم في أنّ واحدها مقدّر وأنه يكون عند التقدير حسب القياس)). ومن هنا نعلم أنّ مفرد تغييرات تغييرة لا غير، علمناه بالقياس، وشَهِد بذلك ما جرى على ألسنة العرب في هذا الوزن والجمع، كتكبيرات وتسليمات وتفعيلات وتطليقات، ومفردهن تكبيرة وتسليمة وتفعيلة وتطليقة، وكل ما لم يجر على الألسنة من هذا فهو معلوم بالتقدير، وعلى هذا المعيار جرى باب (تفعيلات) كله في العدد، فيما رأينا من أساليب العلماء، كما تقدّم في الأمثلة في الجزء الثاني، من نحو (ثلاث تصحيفات) و(ثلاث تمثيلات) و(ثلاث تقديرات) و(ثلاث تفريعات) و(ثلاث تأكيدات)، و(ثلاث تأويلات) و(ثلاث تبخيرات) و(ثلاث تشبيهات) و(ثلاث توجيهات) وغير هذا، فأين سمعت أنت أو غيرك تصحيفة أو تمثيلة أو تقديرة أو تأكيدة أو تأويلة أو تبخيرة أو تشبيهة أو توجيهة؟ وما الفرق بينهن وبين تغييرة؟

    الوقفة الثالثة: أن الوهم في مفرد تغييرات قد يقع فيقود إلى وهم آخر، إذ يرد في أساليبهم نحو قولهم: (أحد التغييرات) وقولهم: (فيه تصحيفات: الأول) فربما ظُنَّ أن في هذا دليلاً على المفرد، وأنه تغيير لا تغييرة، وهذا مردود أيضا، وهو محمول على الوهم أو التوهم أو التوسّع غير المنضبط، فالقائل هنا يرجع بالمصدر إلى أصله، فيساوي بين تغايير وتغييرات وتصاحيف وتصحيفات، فكما يقول: (فيه تغايير: الأول) يقول: (فيه تغييرات: الأول) وهذا يخالف الأصل الذي وضعت عليه اللغة، في المخالفة بين مفردي الجمعين، فلا يصلح أن يكون مفرد تغايير وتغييرات شيئًا واحدًا، والقياس يأباه؛ لأنّ الوجه التفريق كما تقدم، فينبغي أن يقول: (الأُولى) مع تغييرات، و(الأوّل) مع تغايير، ولو جعلت باب تفعيلات تحت النظر والفحص الدقيق لوجدته يجري على أصله، فهم يقولون: إحدى التكبيرات وإحدى التسليمات وإحدى التطليقات وإحدى التسبيحات، ويقولون: (فيه تكبيرات: الأولى) وكذا مع تسليمات وتطليقات وتسبيحات وتحميدات، فكان القياس على هذا الباب أن يقولوا: (فيه تغييرات: الأولى) أي التغييرة الأولى كالتكبيرة الأولى، ولا عبرة بقول القائل: أحد التغييرات وأحد التنبيهات؛ لأنه يخالف الأصل، ولا يجعل الوهم طريقًا لمخالفة الأصول والأقيسة. ولهذا قال أبو جعفر النحاس (ت 338هـ) في معاني القرآن 4/ 464: ((ثلاث تقديرات: إحداهن)) ولم يقل: أحدهن، ولو قاله لحمل على ما ذكرتُ من التوهم أو الرجوع إلى أصل المصدر (تقدير) تجوّزا واتساعًا لا قياسًا.

الوقفة الرابعة: أن في مطلق الجمع معنى التأنيث كما يقولون، والمجموع بالألف والتاء أكثر دلالة على التأنيث وأشدّ التصاقًا به من جمع التكسير، فهو بابه، ولذا قال ابن يعيش عن تلك الجموع: إن العرب ((تَخيّلوا فيها التأنيثَ، فجمعوها بالألف والتاء على حدِّ ما فيه تاء التأنيث)) (شرح المفصل 3/ 346) أو ((هو مشبّه بما في واحده هاءُ التأنيث)) (النُّكت للأعلم الشّنتمري 2/ 1019) ولهذه العِلّة نلمح في مذهب الكسائي والبغداديين ما يُقرّبه من روح اللغة وبنائها الفلسفي؛ لأنهم حملوا سجلّات وحمّامات على التأنيث مع أنّ مفردهما مذكر؛ فراعوا أصل الباب، وهو التأنيث، وجعلوا المجموع بالألف والتاء دليلا عليه، ليدخل في الباب ما شذ من المذكّرات المجموعة بالألف والتاء، فحملوا القليل على الكثير؛ لأنّ قياس مفرده في الباب أن يكون مؤنثًا، وبمثل هذا علل الحريري (درة الغواص 234) مذهبهم؛ فقال: ((لما كان الغالب على المجموع بالألف والتاء أن يكون مؤنثَ الذي تجرد عدده من الهاء لحق به ما جمع عليهما من جنس المذكر، ليطرد الحكم فيه، ويسلم أصله المنعقد من نقض يعتريه)). فكأنهم انتقلوا من النظر إلى المفرد إلى الاكتفاء بلفظ المؤنث بالألف والتا، وجمهرة العلماء الذين استعملوا (ثلاث تغييرات) يردّون هذا المذهب البغدادي؛ فلا يُحمل كلامهم عليه بل على أصل القاعدة في جمع المصدر ومغايرة العدد، وإنما ذكرته هنا ليُعلَم أنَّ هذا الجمع بابه التأنيث؛ فإذا وقع منه ما يحتمل مفرده التذكير والتأنيث حُمِلَ على المؤنث الجاري على القياس.

الوقفة الخامسة: أن القول بـ ((انعدام استعمال الجمع (تغايير) في المعجمات اللغوية وفي استعمالات اللغويين والنحويين والمفسرين دلالةٌ على عدم تسويغ استعماله، وانعدام استعماله مماثلٌ لانعدام جمع تنبيهٍ على تنابيهَ، وتوجيهٍ على تواجيهَ، والمستعمل في الجمع تنبيهاتٌ وتوجيهاتٌ)) منقوض بأمرين: أولهما القياس على ما سبق ذكره في تكسير تفعيل على تفاعيل وثانيهما استعمال العلماء الأثبات من اللغويين والمفسرين والمحدثين والأصوليين والأطباء والأدباء، فقد جاء هذا الجمع أعني تغايير - في كلام كثير منهم، ونراه في أساليب الرازي ت 313هـ  في (الحاوي في الطب 4/ 571، 5/ 118، 7/ 428) وابن جني ت 392هـ  في (سر الصناعة2/ 137) والخطيب الإسكافي 420هـ  في (درة التنزيل 1/ 67 ) وابن سينا ت : 428هـ في (القانون في الطب 3/ 138 ) وأبي الريحان البيروني ت 440هـ  في (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة 41) وأبي الحسن الماوردي ت 450هـ في (أعلام النبوة 58) وابن سيده ت 458هـ في (المخصص 4/ 210 تحقيق جفّال)، وأبي المعالي  الجويني، الملقب بإمام الحرمين ت 478هـ في (نهاية المطلب في دراية المذهب 1/ 355،  2/ 130،  426، 573، 575، 587، 590، 4/ 339، 5/ 149)، والراغب الأصفهاني ت 502هـ في (الذريعة إلى مكارم الشريعة 294 )، وأبي حامد الغزالي ت 505هـ في (الوسيط في المذهب 2/ 637) وابن عطية 542هـ في (المحرر الوجيز 4/ 213)، وأبي القاسم الرافعي القزويني ت 623هـ في (العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير 3/ 391) وابن الصلاح ت 643هـ في (صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسَّقَط 164) وحازم القرطاجَنّي ت 684هـ في (منهاج البلغاء 244) وابن الرّفعة ت 710 هـ في (كفاية النبيه في شرح التنبيه 4/ 224 ) وابن الفُوَطي الشيباني ت 723 هـ في (مجمع الآداب في معجم الألقاب 3/ 194)، والشاطبي 790هـ في (المقاصد 7/ 432)، واليونيني ت 726 هـ  في (ذيل مرآة الزمان 1/ 128) والمقريزي ت 845هـ في (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار 2/ 370) والنيسابوري ت 850هـ في (غرائب القرآن 6/ 471) فهل لهذا الجمع تغايير - أن يجري على ألسنتهم ويقع في كتاباتهم لو كان مخالفًا للقياس المعلوم في تكسير تفعيل؟!

الوقفة السادسة: أنه يلزم مَن أنكر ستَّ تغييرات تلحينُ الأئمة الأعلام من علماء الأمة، لقولهم: ثلاث تغييرات، وقولهم مثلها فيما جاء في بابها، فيكون خالف القاعدة ولحّنَ العلماء، فارتكب بذلك خطأين وجمع بين قُبحين.

عبدالرزاق الصاعدي

الجمعة 1/ 4/ 1438هـ الموافق 30/ 12/ 2016م