مداخلة
الأستاذ حسن العمري بعنوان:
تعليقي
على (صوت القيف)
اختلف موقف متلقي القرار الذي أصدره مجمع اللغة الافتراضي حول
الصوت الذي بين القاف والكاف، بتسميته (قيفًا) باعتباره صوتًا فرعيًا يمثّل
امتدادًا لحرف القاف، وتصويره في صورة القاف بجعل نقطتيه من تحته - ما بين مؤيد
ومعارض ومتوقّف ومن لم يفهم المقصود، ولبيان حقيقة ما قام به المجمع في شأن هذا
الصوت -بحسب فهمي- ومسائل أخرى متصلة به أعلّق بالنقاط الموجزة الآتية مع ترحيبي
بأي نقاش حولها:
1. إذا عرض باحث
-خاصة حينما يكون معروفًا بعلمه وتحقيقاته وأبحاثه- رأيًا علميًّا قد اجتهد في
الوصول إليه، وأقام أدلته على صحته عنده فإن على أهل العلم الذين ينتمي إلى تخصصهم
ذلك الرأي ألا يضيقوا به، وإنما أن ينظروا فيه فإن كان مقبولًا، وأدلته كافية
قبلوه وقوَّموه، وإن كان غير مقبول ردوه بأدلة، ونقضوا أدلته؛ لأن الحقيقة العلمية
هي الهدف، وليس يغني شيئًا أن يساء إلى الباحث، أو أن يقلل من شأن عمله بغير
المنهج العلمي.
2. هذا الصوت تكلم
عنه بعض المتقدمين، عند حديثهم عن لغات العرب (لهجاتهم)، كابن دريد في الجمهرة،
وابن فارس في الصاحبي، ونقلوا عليه شاهدًا لشاعر من تميم، يقول فيه:
ولا أقول لقدر القوم قد نضجت ولا أقول لباب الدار مقفول
وهو مكتوب في كلا الكتابين بالكاف، والظاهر أنه في النسخ
المخطوطة مكتوب بكاف مميزة، إما بشرطة أو بتغليظ خط الحرف، أو نحو ذلك؛ لأنه في
طبعة الجمهرة (حيدراباد) مرسوم بكاف غليظة.
ومن يقرؤه في طبعة الصاحبي (بتحقيق السيد أحمد صقر) فسيقرؤه
بكاف خالصة، إلا أن يكون عالمًا به، وأذكر أنني قرأته -أولَ ما قرأته- كذلك،
وتعجبت من هذا الحرف، ثم تبين لي أنه الصوت الذي أتكلم به طيلة اليوم!
فأن يُعبَّر عن هذا الصوت برمز آخر لا يلتبس على القارئ، ولا
يترتب عليه نطق مغاير للنطق المقصود أولى من التعبير عنه برمز يلتبس بغيره، ويترتب
عليه إخراج للصوت عن المقصود به، أفكان يمتنع ابن دريد وابن فارس عن أن يكتبا
البيت السابق برمز (القيف) الذي اعتمدها المجمع بدلًا من الكاف الغليظة أو التي
فوقها شرطة لو أنه كان بين يديهما هذا الرمز، وقد اصطُلِح عليه؟!
3. هذا الصوت سماه
بعض الباحثين حين احتاجوا إلى التعبير عنه بـ(الكاف الفارسية)، وفي هذا إلجاءٌ
للعربية إلى غيرها، فأيُّما أولى، أن يسمَّى هذا الصوت العربي باسم مأخوذ من لغته
يعبِّر عنه، أم يُركن إلى الفارسية للتعبير عنه والوقوف على حقيقته؟
4. سبق أن نبَّه
المجمع -وهو شيء قلته من قبل وأؤكد عليه هنا- أن هذا (القيف) ليس حرفًا مستقلًّا،
ولا يستقيم أصلًا أن يقال بأنه حرف؛ لأن نطقه في اللهجات يأتي للكلمات التي هي
بالقاف في الفصحى، فجعله حرفًا مستقلًا يقتضي تعارضه مع القاف، وبناءً عليه لا يتصوَّر اعتباره حرفًا مستقلًّا، ولا
إدخالُه ضمن حروف العربية إلا أن يحل محل القاف، وهو ما لا يقول به عاقل.
5. بناءً على النقاط
الثلاث السابقة فإن (القيف) الذي اتخذ المجمع قرارًا في اسمه ورسمه، إنما هو
لتخليص ذلك الصوت العربي من تبعيته لغير العربية في الاسم، ومن انحرافه والتباسه
بغيره في الرسم، ومن هنا فإنني أؤكد على أن عمل المجمع في شأن هذا الصوت -بحسب
فهمي وما أراه- لا يتجاوز استبدال مصطلح (القيف) بمصطلح (الكاف الفارسية) ونحوها
مما سمي به، واستبدال رمزه المتمثل في صورة القاف بجعل نقطتيه من تحت برمزه
المتمثل في صورة الكاف التي فوقها شرطة.
6. أؤكد على أن هذا
(القيف) -وهو أمر قرره المجمع- محدود الاستعمال؛ يستفيد منه من أراد التعبير عما
يسمى (الكاف الفارسية)، ومن أراد كتابة هذه الكاف في موضعها، ولا يتجاوز به ذلك،
فكل ما من شأنه مخالفة المنهج الذي قرره علماؤنا المتقدمون في قضايا التعريب ونحوه
مرفوض وغير معتبر، فمن ذلك أنهم إذا عرَّبوا كلمة مشتملة على صوت ليس في العربية
عبَّروا عنه بأقرب الأصوات العربية الفصيحة إليه، فكذلك إذا عرِّبت كلمة فيها صوت
القيف فإنها ترد إلى أنسب صوت فصيح إليها، إما القاف وإما الكاف، فهذا الصوت إنما
يكون استعماله والتعبير به إذا أريد التعبير عنه في ذاته، أو حكاية كلمة وردت به
على لفظها -خاصة الأعلام- كما لو أردنا أن نطبع كتاب الجمهرة أو الصاحبي مرة أخرى،
فيكتب البيت السابق به؛ للتعبير عن مقصود العلماء بهذه اللهجة، وكما لو أراد مترجم
أو دارس في علم اللغة المقارن أو نحو ذلك أن يحكي نطق لفظة ما في غير العربية؛ إذ
لن تكون بالقاف المحققة.
فمن أمثلة ذلك قول الطاهر ابن عاشور عند كلامه على لفظة
(سجِّيل): ((وعنه (يعني ابن عباس) أن (سجِّيل) معرَّب (سِنكِ كِل) من الفارسية، أي
عن كلمة (سنك) وضُبط بفتح السين وسكون النون وكسر الكاف اسم الحجر، وكلمة (كِل)
بكسر الكاف اسم الطين، ومجموع الكلمتين يراد به الآجر، وكلتا الكلمتين بالكاف
الفارسية المعمَّدة، وهي بين مخرج الكاف ومخرج القاف))، فهل كان ابن عاشور سيضطر
إلى بيان أن الكاف في كلتا الكلمتين ليست هي الكاف المعروفة وإنما هي تلك التي
مخرجها بين الكاف والقاف لو أنه كان بين يديه مصطلح محدد لذلك الصوت؟ وما المشكلة
لو أن اللفظتين كتبتا برمز (صوت القيف) للتعبير عنهما بشكل دقيق، دون إلجاء ابن
عاشور إلى التعبير عنه بالكاف الفارسية، وتأكيد ذلك ببيان المخرج حتى يُعلم أن
الكاف التي كتبت بها الكلمتان غير مقصودة.
ويقول الدكتور عماد الدين خليل مصوِّرًا حاجته إلى رمز يحل
مشكلة هذا الصوت خصوصًا في الأعلام الأجنبية؛ إذ يكثر فيها الخلط، ويصعب التعبير
عن الصوت المقصود -وفي ظني أن رمز القيف كان سيحل هذا الأمر- يقول: ((وردت بعض
أسماء الأعلام التي تبدأ بحرف (G) الإنكليزي مثل (Gibb) حسب رسم الحرف في
المصدر المعتمد، حينًا بالغين (غب)، وحينًا بالكاف (كب) أو الكاف الفارسية (كَب)
وحينًا بالجيم (جب) التي تلفظ لدى المصريين بالكاف الفارسية، وحبّذا لو تم الاتفاق
بين المترجمين العرب على رسم موحّد لهذا الحرف المربك))، فهل آن أن يُتَّفق على
رسم موحد؟!
7. إذا لم يُقبل من
المجامع اللغوية وأساتذة اللغة المتخصصين حل مشكلات اللغة التي تعترض طريق
الدارسين وتشكل عليهم فماذا سيقبل منهم إذًا؟ ومن سيُقبل منه ذلك؟ سؤال لا يحتاج
إلى جواب، وإنما يحتاج إلى عمل، ولعل (صوت القيف) باسمه ورسمه من تلك الحلول.
8. الباب مفتوح
لمناقشة هذا الموضوع بتفاصيله، سواء في رمزه، أو اسمه، أو وصف مخرجه، أو أي قضية
تتصل به، إذ لا يسع أحدًا في المجمع أو خارجه، رئيسًا أو عضوًا أو مشاركًا أن يرفض
الحق إذا تبيَّن له، واللغة للجميع، والجميع حماتها، ولن يمكَّن أحد من النيل
فيها، فالله حافظها، وليس الحل في أن يطأطئ بعض من أنكر هذا الصوت رأسه، وإنما بأن
يرفعه، فإمَّا أن يبيِّن، وإما أن يتبيَّن.
كتبه: حسن العمري
محاضر بكلية اللغة العربية