مداخلة
مع شيخ أشياخنا أبي علي الفارسي في وزن (أيْطَبّة) الدابّة
قال
ابن سيده في المحكم: ((ما أَيْطَبَه: لُغَةٌ في ما أَطْيَبَه. وأقبلتِ الشّاةُ في أَيطَبَتِها:
أي في شِدّة استحرامها، ورواه أبو عليٍّ عن أبي زيدٍ: في أَيْطَبَّتها، مُشدَّدٌ، وقال:
إنّها أَفْعَلَّةٌ، وإن كان بناءً لم يأتِ لزيادة الهمزة أوّلاً، ولا يكون فَيْعَلَّةً
لعدم البناء، ولا من باب اليَنْجَلِبِ وإِنْقَحْلٍ، لعدم البناء، وتلاقي الزّيادتين))
المحكم (يطب) 9/ 186
وفي
الطراز الأول لابن معصوم: أَيْطَبَةُ العنز، كأرنبة وتشدّد: شدةُ شهوتها للضِّراب.
ورُوي التخفيف والتثقيل في عدد من المعاجم، والاستحرام طلب الضِّراب، يقال: استحرمتِ
الشاةُ وكلُّ ذاتِ ظِلف: إِذا اشتهت الفحلَ.
وقد
راجعتُ كتب أبي عليّ الفارسيّ المطبوعة ولم أجد هذا النص فيها، ولا أشك في صحة نسبته
للفارسي، فابن سيده ثقة في نقله، وهو خبيرٌ بتراث الفارسي وتلميذه ابن جني، ولذا تراه
يُكثر من النقل عنهما في المحكم والمخصص.
ولي مع هذا النصّ وصاحبه الفارسي وقفات:
أوّلها:
أن رأي الفارسي (رحمه الله) يبدو متناقضاً فهو ينكر وزناً ويردّه بحجّة عدم البناء
(عدم النظير) وفي الوقت نفسه يقبل وزناً آخر، ويصرح بأنه بناء معدوم لا نظير له. وتأمل
قوله في أيْطَبّة العنز: ((إنَّها أَفْعَلَّةٌ، وإن كان بناءً لم يأْتِ لزيادة الهمزة
أوّلاً، ولا يكون فَيْعَلَّةً لعدم البناء، ولا من باب اليَنْجَلِب وإِنْقَحْلٍ، لعدم
البناء)) فانظر كيف قبل أفْعَلّة (وإن كان بناء لم يأتِ لزيادة الهمزة) وأنكر فَيْعَلة
وفَعْلَلّة (وهو مرادة بباب الينجلب وإنقحل فيما يظهر) لعدم البناء أيضا (أي بناء فَعْلَلّة)
وحملني على هذا إصراره على رأيه في الينجلب، إذ قال في الشيرازيات بما لبس فيه: ((وأما
اليَنْجَلِب فإنه من باب القَهْبَلِس، ألا ترى أن الزيادتين لا تتواليان أوّلا في غير
الأسماء الجارية على أفعالها؟ ومن ثم قلنا في المنجنيق: إن الميم فاء لما ثبت زيادة
النون
فإن
قلت: أفليس قد قال في إنقحل إنه من القَحَل؛ فهلاّ قلتَ في هذا أيضا إنه من الجَلَب؛
لأن المرأة إنما تُريد بذلك إقبال الرجل عليها، وترك الإعراض عنها، كما أن ذلك من القحَل
واليُبْس؟
فإن
هذا يمكن أن يقوله القائل، إلا أن المعمول عليه (لعلها المعوّل) الأول، وكأنه في القضية
الأولى لم يعتدّ بإنقحل لقلّته)) (الشيرازيات 2/ 589)
لكنْ
ثمة وجهٌ آخر هنا لا يُدفع، وهو أن الفارسي يرى في هذا النص المنقول عنه ما يراه
الجمهور في الينجلب والإنقحل، وهو أنهما
مزيدان بالحرفين، وأن الزيادة في هذا الموضع فيهما خاصة مع إنزهو، فإن صح هذا
الوجه فهو يريد أن ينكر وزن (أيْفَعْلَة) بزيادتين في أوله، هكذا، فهل تراه رجع عن رأيه
في الينجلب والإنقحل؟ أو ترى هذا من خلل الراوي ابن سيده رحمه الله؟
وثانيها:
أن التحليل الصرفي لكلمة (أيْطَبّة) ينتهي بنا إلى أن هذه الكلمة تحتمل ثلاثة جذور
لاغير، لأنّ فيها حرفين صحيحين وهما الطاء والباء، ولا بد منهما في أي جذر لها ويثلثهما
الهمزة أو الياء أو تضعيف الباء، وهي: (أطب) و(يطب) و(طبب)
فإن كان جذرها (أطب) فأيطْبَّة (فَيْعَلّة) وهذا
مستبعد؛ لأنه جذر مهمل، واستبعده الفارسي؛ لأنه يؤدّي إلى بناء معدوم، ولم أجد اشتقاقا
يدعمه.
وإن
كان جذرها (يطب) غير مقلوب فإن أيطبّة (أَفْعَلّة) وقبله الفارسي على مضض قال: ((وإن
كان بناءً لم يأتِ لزيادة الهمزة أوّلاً))
وإن
كان هذا الجذر مقلوبا من (طيب) فله وزن مقلوب
سيأتي ذكره وتعليله في خامسا.
وإن
كان جذرها (طبب) فوزن أيطبّة (أيْفَعْلَة) وهو غير ممتنع عندي تصريفا، ولا ألتفت لعدم
وجود البناء حين أرى الاشتقاق فهو أصدق من عدم النظير أو المعيارية متى ما أمكن الحمل
عليه، فثمة ما يحمل عليه هنا؛ لأن العرب تقول: فحل طَبٌّ، إذا كان حاذقاً بالضِّراب،
وفحولة طَبّة، فقد يكون مختزلا من كلمتين: (أيْ طَبّة) كأنها للنداء، وكأن الأنثى
تنادي الفحل وتطلبه، ومع كثرة الاستعمال اختزلت في كلمة واحدة:
(أي+طبّة = أيْطَبّة) فأصبحت كالكلمة الواحدة، وجذرها طبب على ما ذكرت.
(أي+طبّة = أيْطَبّة) فأصبحت كالكلمة الواحدة، وجذرها طبب على ما ذكرت.
وثمة
وزن رابع ألمح إليه أبو علي الفارسي ولم ينص عليه، ولكنه يفهم ضمنا من كلامه وهو (فَعْلَلّة)
وذلك في قوله: ((ولا من باب اليَنْجَلِبِ وإِنْقَحْلٍ، لعدم البناء، وتلاقي الزّيادتين))
والينجلب وإنقحل عنده خماسيان كما تقدم، ومعنى تلاقي الزيادتين التقاء الهمزة والياء
زائدتين في أول الكلمة، أي أن الزيادتين لا تتواليان أوّلا في غير الأسماء الجارية
على أفعالها، والفارسي ينكر هذا الوزن (فَعْلَلّة) ومعه حق؛ لأن أصالة الهمزة والياء
مع وجود الطاء والباء لا يقبلها التصريف المعياري، والتصريف يؤخذ به ما لم يصطدم بالاشتقاق.
ولكن العجيب أن الفارسي لم يعتد هناك بتلاقي الزّيادتين في الينجلب وإنقحل، ولا بالاشتقاق
الواضح فيهما.!
وثالثها:
أنه يبدو أن الأقرب من الأوزان الأربعة المشار إليها في الفقرة السابقة: (فيعلّة وأَفْعَلة
وفَعْلَلّة وأيفعلة) في وزن أيْطَبّة العنز هو أَفْعَلّة (وهو اختيار الفارسي كما يظهر
في النص) لكن ليس للعلة التي ذكرها وهي بطلان الوزنيين الآخرين في نصه، لعدم البناء،
فهذه علة غير مقبولة؛ لأن هذا الوزن الذي اختاره (أَفْعَلّة) ليس من أوزان العرب أيضا
فيسقط الاحتجاج بعلته، ولكنّ ما قد يؤيد هذا الوزن هو الاشتقاق الذي يتشاغل عنه أبو
علي بالمعيارية. والاشتقاق هنا يؤيّده أمران أن جذر الكلمة (يطب كما يظهر وقد يكون
مقلوبا من طيب) والآخر -وهو الأهم- قولهم: أَيْطَبْة بالتخفيف وأيْطبّة مثقّل منه،
فأيْطَبَة أَفْعَلَة مثل أرنبة، والتثقيل في الكلمة لا يغير جذرها.
رابعها:
أن قولهم (أيطبَة بالتخفيف) ربما يمنع صرف الكلمة إلى جذر (طبب) وهو ما أهمل الإشارة
إليه الفارسي، فيمتنع أن يكون وزنها أيْفَعْلَة، ولا أردّه بغرابة الوزن وعدم النظير،
لكن أرده بالاشتقاق الذي يظهر في قولهم (أيْطَبَة) كأرنبة بالتخفيف، لأن الظاهر الذي
لا لبس فيه أنه مقلوب من (أطيب) ومنه معنى الاستطابة، وكأن العنز تستطيب الفحل وتشهيه.
وخامسها:
أن تأمّل ما في جذر (يطب) في معاجمنا يوحي بأنه مقلوب من (طيب) فأساس الجذر ما أيْطَبَه
بمعنى ما أطْيَبَه، وجمهور الصرفيين يرون أنه من القلب، فالراجح أن ما أطْيَبَه هو
الأصل، فيكون ما أيْطَبَه على وزن (أعفله) فإن كان أيْطَبّةُ العنز من هذا كما يظهر،
لأنها مثقلة من (أيطبَة كأرنبة) أي أنها تستطيب الفحل وتشتهيه، فإن وزن أَيْطَبّة العنز
(أعفلّة) بالقلب، فإن قيل إن هذا صار أصلاً برأسه كجذب وجبذ، فأيْطَبّة: (أفْعَلّة)
وإن قيل إنه من المقلوب فوزنه (أعفلّة) والله أعلم.
عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
المدينة المنورة - مجمع اللغة الافتراضي
4 رجب 1435هـ